مذكرات الأسير صدقي سليمان المقت - ارشيف موقع جولاني
الجولان موقع جولاني الإلكتروني


مذكرات الأسير صدقي سليمان المقت
11-7-2005

أصعب الأشياء في الحياة هي الكتابة... أن تكتب يعني انك تواجه الحقيقة... يعني انك تتجرد من كل الأقنعة والمؤثرات الخارجية... وتقف عاريا بوجه حقيقة الأشياء ... وبهذا المعنى لا ادري كيف سأكتب عما يمر علي ألان... لا ادري كيف سأكتب عن حدث هو اكبر من قدرتي على تحمله أو استيعابه... حدث أشبه بزلزال يدمر كل شيء من حوله وأول الأشياء التي يدمرها هو أنا ... يحطم فيي كل شيء ويضعني تحت حجر الطاحون ويسحقني ثم يعيد نثري في الهواء على شكل غبار إنساني... زلزال ينزل على صدري مكبس من ألاف الأطنان ... ويضغط ... ويضغط... ولا شيء يوقف الضغط... اسمع تكسر العظام وانسحاقها وبعدها تحطم المعنوية والأعصاب وفقدان العقل ... وعندما لا يبقى شيء يسحق في الصدر يتحرك المكبس باتجاه الحنجرة ليمارس هوايته في السحق والتكسير... اشعر باختناق وبعدم المقدرة على التنفس او الكلام ... وكل الأوتار الصوتية وحبال الرقبة مشدودة إلى أقصى درجاتها لا بل تعدت المؤشر الأحمر وقابلة للانفجار في كل لحظة... ويزداد الضغط
إعصار قادم من بعيد يحمل معه مياه المحيطات والبحار والأشجار التي اقتلعها والسيارات والبيوت التي حملها معه ... أحسه يقترب مني وبلمحة بصر يقتلعني ويحملني معه ... كل الحبال التي تثبت أقدام جسمي لم تصمد لثوان... الغرفة التي احتمي بها تطايرت جدرانها وسقفها وتناثرت لعشرات القطع ... يحملني معه ويلقيني في الهواء... افقد كل توازني وقدرتي على تحديد الاتجاهات... لا اعرف أين أنا ومن أين أتيت وأين كنت والى أين أنا ذاهب ... لا اعرف من أنا ومن أكون وما الذي يحصل... ارتطم ببيت مهدم حينا وعلى احد الصخور حينا أخر... وافقد وعيي وعقلي وادخل في غيبوبة... تمر ساعة ربما ساعتين أو ثلاث... يوم أو يومين... لست ادري كم مر من الوقت حين فتحت عيني لاكتشف بأنني ما زلت على قيد الحياة... ومن فوقي وحولي تراكم كل هذا الدمار... أحاول أن الملم كل أجزائي المكسرة المبعثرة واخرج من تحت الردم وانظر حولي لاكتشف حجم الدمار الذي خلفه هذا الإعصار... هي ثوان قليلة كانت كافية لكي تحدث هذا الزلزال وكل هذا الخراب... بصعوبة أصل إلى منطقة كانت يوما ... ما بيتنا ... اكتىء على بقايا حائط مدمر وابدأ في البكاء... لا ادري ابكي من رحل أم ابكي من بقي... ابكي حالي أم حال من رحل عنا... لا ادري... هما كلمتين كانتا كافيتين الآن أجد نفسي في عين الإعصار... يلفني مئات المرات ويرفعني إلى أعلى ويرميني بكل قوة إلى الأسفل... يفعل بي ما يحلو له... يمارس كل سادية ووحشيته في التعذيب ... وأنا لا قدرة لي على أي شيء... مسلوب الإرادة والقدرة على الكلام... صامت ابكي كالأطفال... ولا أقوى على النطق بأي كلمة ... جملة واحدة من كلمتين ... أحدثت هذه العاصفة... وغيرت مجرى حياتي وإحساسي بالأشياء ... أفقدتني بصري فما عدت أرى شي من حولي سوى اللون الأسود... عتمه في كل مكان أفقدتني سمعي...فما عدت اسمع إلا الصمت وأصوات البكاء كل أنواعه المفضوح والمكبوت والمخنوق... جملة واحدة من كلمتين... قذفها الضابط بوجهنا يوم الخميس 7_7_2005 الساعة التاسعة والنصف ليلا ... قالها ومضى ... دون أن يدري أي زلزال هذا الذي يحمله إلينا... فيا حامل الخبر أتدري أي خبر تزف لنا... أتدري معنى ما تقوله؟؟؟ .... إنني أشفق عليك وعلى حالك لأنك تجهل قيمة الأشياء ولو عرفت لما... استطعت أن تقوى على حمل هذا الخبر... مهلا علينا ولا تحملنا هذا الخبر دفعة واحدة... انقله لنا على دفعات صغيرة ومتباعدة لأننا لا نقوى على استيعابه وتحمله دفعة واحدة... لكن الضابط أصر أن يقول ما عنده ويمضي ... ربما كان مثلنا لا يستطيع إخفاء هذا الحمل الكبير... ربما اثقله واتعبه هذا الذي كلف بنقله الينا ... لذاك ما ان وصل الى باب الغرفة حتى قال ما عنده ومضى... وتركنا وحيدين بوجه العاصفة... تفعل بنا ما تشاء نحشر... ستة اشخاص في غرفة صغيرة مقفلة الباب والجدران والنوافذ ... ويحشر معنا خبر بحجم جبل... ضاقت بنا الدنيا كلها وما عاد المكان يتسع لشيء... ادخل الى الحمام واتكي على حنفية المغسله ...ابكي بكاءا لم اعرف مثله طيلة حياتي ...ابكي بكاءا مكشوفا مفضوحا ولا شيء يوقف البكاء والدمع ...استجمع بقايا قوتي واشلائي المبعثره واعود الى الغرفه...لا ابصر شيئا ولا اسمع سوى اصوات البكاء اجلس على كرسي بجانب طاوله اسند عليها راسي الذي اصبح ثقيلا وما عدت اقوى على رفعه او تحريكه ...اخبيء عيني براحة كفي واغرق في بحر من الدموع والبكاء الصامت ...يمضي الوقت ...وتمر الدقائق والساعات وانا فاقد الاحساس بالوقت وبكل الاشياء التي من حولي ...وكلما اشتد علي بكائي وما عدت قادرا على اخفائه براحة يدي ادخل الى الحمام واسند راسي على تلك الحنفيه ومن دون استئذان مني لان عقلي واعصابي وقدرتي على التحكم بسلوكي وتصرفاتي كلها مشلوله معطله...محطمه من دون
يحلو له وكما يريد ...ما عدت قادرا على التحكم بجسمي واعصابي وحواسي وعواطفي...فهي التي كانت تتحكم بي وتحاصر العقل وتلغيه ...تستثير بي كل الاحزان وتستفز كل العواطف والاحاسيس ...تغزو ذاكرتي لتجد هناك ارشيف لا ينتهي من الذكريات والمشاهد والصور ...ومع كل مشهد وطيف صوره تتأجج ثورة العواطف والاحاسيس ...فيرتفع البكاء ويتساقط الدمع...
اعود فاجلس على الكرسي واسند رأسي على الطاوله,يتكرر ذهابي الى الحنفيه والمغسله وعودتي من هناك عدة مرات ...ما عدت اذكر عددها...احد الزملاء يلح علي ان اذهب لاستلقي على احد الاسره ...في البدايه رفضت...وتحت الالحاح تجاوبت ... جلست على السرير ...اسندت راسي على الحائط ...واخفيت عيني براحة يدي ...ومضيت اقلب الذكريات واقلب الخبر غير قادر على تصديقه...ايعقل ان يكون هايل...قد رحل عنا ...لا...لا...هذا شيء غير معقول..هذا مجردوهم...ربما تخيلات اصابتني...وكل الذي مر على هذه الليله مجرد كابوس عابر ولن يدوم ...اصحو من هذياني هذا وارفع يدي عن عيني واجلس بشكل مستقيم...لأجد نفسي وسط بحر من البكاء والحزن والصمت...جهاز التلفزيون مطفىء...وكل شيء في الغرفه على غير عادته...فاكتشف ان الخبر صحيح اه ما اقساه من خبر...يستمر هذياني هذا وصحوتي...تكذيبي للخبر وتصديقه...امواج صاخبه تلاطمني تاخذني الى حيث تريد...تسحبني احيانا الى اعماق محيط...اغوص الى القاع التقي هناك هايل ...واستعيد معه كل ذكرياتي...انسى الخبر وكل اجواء الغرفه ويتوقف سماعي للبكاء من حولي فقط انا وهايل والذكريات والماضي والصمت...وفجأه تخرجني الامواج من قاع المحيط...اعلو على السطح وترميني على صخورالشاطىء بكل قسوتها وثورة غضبها ...تحطم عظامي وعواطفي واحاسيسي ... فاصحو من غيبوبتي لأجد نفسي وجها لوجه امام الحقيقه المؤلمه...
وبينما انا في هذه الحاله من التلاطم على امواج الحقيقه...اعيش حالتين من الغوص في الاعماق والارتماء على صخور الشاطىء...حالتين من التصديق والتكذيب...الرفض والتسليم لهذه الحقيقة...حالتين تمزيقاني الى نصفين...لا شيىءيكسرالصمت والبكاءسوى
سوى بعض الحركات بجانب الحائط الذي اسند عليه ظهري وانا جالس على السرير...من شدة هذياني وغوصي وانسحاقي،لم افهم ما يدور من حولي...وبعد حين ادركت وانا جالس على السرير،ان صورة قد علقت بجانب السرير على الحائط الذي اسندعليه ظهري...من مكاني لا استطيع ان ارى الصورة...بقيت كما انا جالس لا اقوى على الحركه...اخاف ان اغير مكاني...اخاف ان انظر الى الصورة...لأن الصورة اصبحت تني بأن الخبر كله صحيح ولا يترك لي أي مجال لأن اكذبه او ارفضه...اخاف ان انظر الى الصورة كي لا يراني هايل...واخاف بل اخجل ان انظر بعينيه...اخجل من ذاتي لأني ما زلت على قيد الحياة...بحياتي لم اكن بمثل هذا الضعف والهروب من الحقيقة...وجهك يا هايل اصبح كا لشمس يمثل الحقية المطلقة والنظر اليه يحتاج الى مواجه كبرى مع الذات والتغلب على ضعفي وخجلي وخوفي ...استجمع بقايا قوتي واشلاء جسدي وانتقل لاجلس على الكرسي مقابل الحائط الذي علقت عليه الصورة...ببطىء شديد ارفع راسي الى الأعلى لأرى الصورة...احدق وكل جسدي يبكيك يا هايل...ابكيك بقلبي وعقلي وعيوني وكل احاسيسي ومشاعري ابكيك بوجداني وضميري...كل خلية في جسدي تبكيك...اراك في الصورة واقف على شارع لا اعرف الى اين يؤدي ولا تظهر نهايته في الصورة...اراك وقد كنت تسير على الشارع تدير ظهرك لنا وفي لحظة ما توقفت والتفت الى الوراء الينا نحن...الصورة التقطت في لحظة التفاتتك الى الوراء الى حيث نحن في انتظارك وكانك التفت لتقول لنا ...الوداع ...الوداع اراك وانت بغاية الصفاء والسمو والأنسجام...اراك تلوح بيدك...وكانك لا تريد ان ترحل من دون ان تلتفت وتلقي علينا نظرة الوداع والفراق...اراك...وافهم كل نظراتك...اسمع صوتك القادم من بعيد...اراك راضيا وهذا ما يثير حيرتي وارتباكي...راضيا مسلما بقدرك ماشيا على قداميك على ذاك الطريق الذي اراه في الصوره والذي يوصلك الى العالم الاخر...اصرخ باعلى صوتي...انادي عليك ولاتخرج الصرخة من فمي هايل الى اين انت ذاهب؟؟؟ارجع نحن بانتظارك انتظر ان تسمعني ...ولا اسمع سوى صدى صوتي...تحدق...بي وكانك تقول لي منذ ان افترقنا وانا احمل بداخلي ملاك الموت...لقد اختار ان يسكن جسدي...قاومته وقاومني...صارعته وصارعني...غلبته وغلبني...وفي النهاية تصالحنا واصبحنا زملاء طريق نسكن ذات الجسد...احيانا انا من يحرك الجسد واحيانا هو...الان جاء دوره كي ياخذني الى حيث يريد...امشي معه على هذا الطريق بكل هدوء وطمأنينه...ما عاد يخيفني وما عاد وجهه قبيحانا ذاهب الى حيث اجد التسكينه والطمأنينه والراحة الابديه...أه كم يعذبني صفاء صوتك وهدوءك...لقد غلبت المو ت وقهرته...اي انسان انت...تحمل كل هذه العذبات والألآم...والموت يسكن جسدك وتمضي بهذا الهدوء والطمأنينه لا شيىء يخيفك...او يعكر نقاء روحك ...تحمل عذاباتك وخطايانا واثامنا وتمضي لتلاقي قدرك...انت الاله المخلص في آخر تجلياته...تماما كما حمل المسيح خطايا شعبه الذي تطر بعذاباته...احدق في الصورة وانا جالس على ذاك الكرسي واتذكر ذاك اللقاء البارز في سجن الرملة في تاريخ 2-11-2004-كان لقاءا بعد فراق طويل امتد لما يزيد عن السنة والنصف...كنت انا في حينه في احدى الغرف من قسم-4-ومعي احد الرفاق...لم نعلم انك موجود في الغرفة المجاورة...كانت غرفتنا مزدحمه جدا ولا نستطيع ان نمضي تلك الليلة بها فطلبنا من الظابط ان يوجد حل لهذا الازدحام...فقال لنا اننا نعمل على تفريغ احدى الغرف...وبعد وقت قصير نادى الشرطي علي وعلى سيطان وطلب منا الانتقال الى الغرفة المجاورة... حملت شنطي وحقائبي واتجهت الى تلك الغرفة رقم-1-...وكم كانت مفجاتي وفرحتي عندما وجدتك واقفا وسط الغرفة تستعد لاستقبالي...عانقتني بحراة ...كنت في حينه في غاية الحيوية والفرحه والابتسامة ترسم على وجهك الصافي...قلت لنا بأنهم ابلغوك بأنك مسافر الى سجن شطه...في حين نحن مسافرين الى سجن الجلبوع...امضينا تلك الليلة ولم ننم ونحن بانتظار السفر في اليوم التالي ...اذكر تحدثنا عن الاهل واخبارهم...وعن صفقة تبادل الاسرى التي لم تشملنا...سألتك عن العملية الجراحية التي اجريتها لعينك...قلت لي بانها لم تنجح وان احدى عينيك معطلة والثانية ترى بها بشكل ضعيف...كنت هادئا وانت تروي لي اخبار نظرك...لم يبدو عليك أي قلق او تذمر في حين ان الامر يتعلق بحاسة البصر...كنت قادم من سجن الرملة قسم-3-وتحمل معك بعض المأكولات التي اخرجتها بيديك ووضعتها امامنا...اكلنا جميعا...واكلت معنا...ولكنك لم تكثر من الطعام...شربنا من العصير والكولا التي احضرتها معك...وامضينا الليل كله نحن الثلاثة في الحديث ونتبادل اخبار الفترة التي افترقنا بها عن بعض...وفي الساعة الثالثة صباحا جاء الشرطي ليبلغنا بالاستعداد للسفر...بدأنا نلم اغراضنا ونحزم امتعتنا ونقفل سحاب الشنط...جاء الشرطي وقيد ايدي كل واحد منا بالقيود الحديدية...الأنه ممنوع علينا الخروج من باب الغرفه دون قيد ...بهذه القيود الثقيله التي تعيق حركتنا كان علينا حمل كامل الشنط والاغراض والنزول بها من قسم-4- في سجن الرمله...النزول على الدرج طويل الان القسم في طابق الثاني ...وبعد الدرج كان علينا اجتياز كل ذلك مقيدي اليدين...نحمل على اكتافنا وظهورنا ونجر ورانا شنطنا واغراضنا وحاجاتنا...اذكر جيدا رحلة العذاب تلك ودرب الالام التي سرت عليها يا هايل وانت مصلوب كالسيد المسيح...وعندما اقتربنا من الحافله التي سوف تنطلق بنا وضعنا اغراضنا جانبا لنستريح ونلتقط اتنفاسنا...اذكر بعذاب كبير المك واوجاعك التي عبرت عنها قلت...هدوا حالي الشنط...اه كم يؤلمني ويعذبني تذكر ذلك المشهد...ساحمل هذا الجرح طيلة حياتي...وسيبقى يعذبني الى الابد...في حينه ظننت انه مجرد تعب عابر..وسيزول عندما نجلس في الحافله وتنطلق بنا...لم اكن ادرك انها بداية النهايه ...بداية العد التنازلي ...لم اكن ادرك ان رحلة الالام تلك التي ابتدأت بالنزول من قسم---4---في سجن الرمله سوف تنتهي بهذا الخبر المفجع الذي سقط علينا...اه لويعود بي الزمن الى الوراء لحملت شنطك واغراضك وحملتك على اكتافي وسرت بك كل تلك المسافه ...نفتش وتفتش اغراضنا وشنطنا ونحن مكبلين مقيدين ...نضع الشنط في بطن الحافله ...ونكبل ونقيد من الارجل ونصعد الى الحافله ...حافله مقاعدها وارضيتها وجدرانها وشبابيكها من الحديد ولا شيء غير الحديد...صندوق من الحديد نزج بداخله في ساعات الصباح الباكر...وعندما يجلس الانسان على مقعد حديدي كانما يجلس على لوح من الجليد...اخذنا اماكننا...كان مقعدك يا هايل خلفي مباشر...علامات التعب والارهاق واضحه عليك وبعد انتظار وترقب واختناق تبدا عجلات الشاحنه بالدوران...منطلقه من سجن الرمله باتجاه الشمال...ونحن بداخلها لا نعرف لا الوقت ولا المكان ولا الزمان...كل ما اعرفه بانه كي تصل سجن شطه والجلبوع عليها ان تنطلق من سجن الرمله باتجاه الشمال...تمشي بنا ونحن نحس بان جدران من الحديد يفصلنا عن الحياة في الخارج...نلامس الحياة من وراء الجدار الحديدي...حيث ندفن بداخله...تمشي الحافله بسرعه جنونيه...تتوقف مع الاشارات الضوئيه ومع كل حركه وتوقف نتلاطم بداخلها الى الوراء والى الامام...نميل مع تمايلها ونصطدم بالحدبد الذي يغلفنا من كل الجهات...تمر على كل السجون...تتوقف عند كل سجن تنزل من حمولتها البشريه...وتعيد التحميل...رجال الشرطه لا يهمهم ماذا يجري بداخل ذلك الصهريج...الذي يفرغونه ويعبئونه على باب كل سجن وكأن الحموله ليست بشرا وانما اكياس تبن بالامكان حشرها وتكديسها فوق بعضها البعض...ليسو بشرا بحاجه الى ماء وطعام والدخول الى المرحاض...بحاجه الى الهواء والتدفئه...ففي قاموس الحافله كل هذه الاشياء رفاهيات لا لزوم لها بالامكان الاستغناء عنها...تمضي رحلة العذاب هذه ...ننام ونصحو ...ننام ونصحومن جديد...والطريق طويل جدا...والانتظار على ابواب السجن يطيل العذاب اكثر وعلامات الارهاق والتعب واضحه عليك يا هايل...كلنا كنا مرهقين محطمين كما في كل سفريه...بين الحين والاخر كنت استجمع بعض القوة والتفت اليك ونتابدل الحديث...اذكر اني رويت لك احدى القصص التي حصلت مع احد
الرفاق في سجن هدريم عندما كنا مفترقين عن بعض...تواصل الحافله السير...تتوقف عند احد السجون...ينادي الشرطي---شطه---هنا سنفترق...اقف مكبل اليدين والقدمين...وتقف امامي مكبل اليدين والقدمين...نتعانق داخل ذاك الصهريج مودعين بعضنا البعض...هنا ستفترق طريقنا يا هايل...اذكر وقبل ان تنزل الى سجنك الجديد اننا اتفقنا ان يكون تجمعنا القادم في سجن الجلبوع ...وخرجت من الحافله من باب اقفل وراءك وما عدت اراك...بجوار سجن شطه يقبع سجن الجبوع...وبعد ان نزلنا من الحافله اتفاجأ باننا امضينا احدى عشر ساعه من السفر ...وهي المده الزمنيه التي استغرقتها رحلة عذابنا تلك من سجن الرمله الى سجن---شطه الجلبوع---كل احداث رحلة العذاب تلك تغزو دماغي وانا جالس على الكرسي احدق في صورتك التي علقت على الحائط...لا ادري كم مر من الوقت وانا انظر اليك واسترجع معك تلك الذكريات الاليمه...اتذكر لقاءنا الثاني عندما تم نقلك من سجن---شطه---الى الجلبوعفي تاريخ—30—11—2004--...وبمجرد ان رايتك عن بعد امتار تدخل باب القسم ...لاحظت كما لاحظ غيري بان جسمك وقد بدا ضعيفا... نحيلا...وجهك ايضا كان ضعيفا...وبعد عناقك اخذنا نتساءل ماذا جرى لك...كل شخص فينا كان يسال زميله ما الذي حصل؟؟؟...وماذا جرى لك يا هايل؟؟اثناء الفتره التي مكثت فيها في سجن---شطه---...كنا دائما نسال القادمين من هناك عن اخبارك وصحتك...كانوا يقولون لنا بان هايل وصل الى سجن---شطه---تعبان مرهق وهو مريض...اعتقدنا في حينه انه الارهاق والتعب الذي يرافق كل سفريه نقوم بها ...ولكن الذي اشاهده الان امامي والذي احس به ليس ارهاق وتعب السفر...انه اخطر من ذاك بكثير بدأ القلق والخوف يدب في نفوسنا ...وانت كعادتك مبتسما شامخا...لا تبدي أي من علامات التعب والتوجع...يغزو الموت جسدك ويسكنه وانت تبتسم له ولنا...تعانق الجميع من المحبين والاصحاب لا تنسى احدا منهم...يدخلونك الى الغرفه---1---تمكث فيها ما يقارب الاسبوع ...اسبوع من الالم والعذاب ...كل علانات المرض والارهاق كانت واضحه على جسدك ووجهك...الا ان روحك وارادتك كانت تقول غير ذلك ...مزاجك ومرحك كما هو لا يعرف الوهن ولا المرض...اذكر عندما انتقلت الى الغرفه---4---..كي تكون مع الرفاق في الغرفه التي سنجتمع بها قريبا...حيث كنا بانتظار عملية نقل شامله...وستكون غرفه---4---هي الغرفه التي تضم اسرى الجولان...سبقتنا الى هناكولم تنتظر قدومنا...ما زالت مشاهد ذاك اليوم الذي غادرتنا به ماثله امامي لحظة بلحظه...كان يوم الاحد من تاريخ-5-12-2004-حوالي الساعه الثانيه او الثالثه من بعد الظهر...عندما عدت من عيادة السجن...تحمل معك خبرا لا تقوى الجبال على حمله...خبر اصابتك بمرض السرطان...دخلت ساحةالقسم والتفوا الرفاق والاصحاب من حولك لتبلغهم بما قاله لك الطبيب...في تلك اللحظه كنت انا في الغرفه ---13---هي لحظات وانتشر الخبر وقد وصلني الى داخل الغرفه ...لم اقوى على الانتظار...وما عادت الغرفه تسعني...كنت مجبرا على البقاء في الغرفه حتى الساعه الرابعه... موعد زيارات الغرف...ذهبت لزيارتك لاراك في الغرفه---4---اذكر تلك اللحظات عندما دخلت الى الغرفه...كنت ممدا على السرير الارضي من جهة اليمين في الجزء الامامي من الغرفه...جلست بجانبك على ذات السرير...كانت الغرفه مليئه بسكانها والاصحاب اللذين جاءوا لزيارتك...جلست بجانبك ولا اقوى على النظر بوجهك من شدة قلقي وخوفي عليك...كلماتي كلها تعثرت في حنجرتي التي انتفخت غضبا وكادت تنفجر...استجمعت ما بقي عندي من قوه ونظرت بوجهك...كنت صافيا هادئا مبتسما...قلت لك بصوت شاحب ضعيف متقطع...هايل شو الي سمعناه...بادلتني الحديث بهدوء وثقه واطمئنان زكأن المصاب بهذا المرض شخص اخر وليس انت...اذكرك وانت تدلني على الاورام في جسمك...وراء اذنك اليمنى..وعلى البطن..وأنا ألامسها بيدي...أتحسس اماكنها وحجمها...لقد تحملت كل هذا العذاب والالم بصمت دون ان اسمع منك أي من كلمات التوجع...صافيا شامخا كالجبل...كان بامكانك ان تصرخ وتزمجر وتكسر وتسب وتشتم...ولو انك فعلت ذلك لكان أهون علينا...لكنك اخترت وفضلت كعادتك الصمت والكبرياء وعزة النفس والشموخ...تحمل في داخلك الموت وقد ياتيك في كل لحظه.
..وانت تبتسم لمن حولك...أي إنسان أنت يا هايل؟؟؟من أي طينه مجبول انت؟؟؟لم تفاجئني ابدا وقد خبرتك عشرين عاما داخل الأسر...لم اسمعك تتوجع او تتذمر وقد عانيت من امراض كثيره ...وفيما أنا ألامس بيدي اورامك وبرحي وجعك والمك وعذابك... فاذا بممثل المعتقل يبلغك بالاستعداد وتجهيز نفسك للسفر الى مشفى العفوله ...كل كياني كان يضطرب في تلك اللحظة...القلق والخوف يسيطر علي ...هي مرحلة اللاعوده إذا...هي الرحله الاخيره ...هو الوداع اذا...لا ادري لماذا التشائم سيطر علي؟؟؟...نجهز لك الاغراض ونساعدك في اللبس...نخرجك من الغرفه ...نزفك بطلا...عريسا...شهيدا حيا...ماشيا على القدمين تتكي علي من جهة وعلى شخص اخر من الجهة الاخرى...تمشي بهدوء متكيء علينا من باب غرفه---4---الى باب القسم ...كل كياني مضطرب يرفض هذا الخروج ...وهذه السفريه وهذا الوداع...كنت اخاف ان لا اراك ثانية...لازمتك حتى اخر مكان استطيع ان اصل اليه...ودعتك...عانقتك...قبلتك...صافحتك...وكلي احساس باني اودعك الى الابد...قلت لك اكثر من مره---هايل ارجع لعندنا...هايل انت راجع ؟؟؟...كنت توافق عما اقوله لك وتومي راسك موافقا وتتلفظ بكلمات تؤكد انك راجع لعندنا... كنت اقول لك---ان ترجع وانك راجع---وكاني اقول لك---هايل لا تموت...هايل اخاف ان تموت ...هايل ارجوك لا تموت---لا تتصور كم كنت خائفا...قلقا...اتذكر كل ذلك وانا جالس على ذات الكرسي امام صورتك ...وقد وضع على زاويتها شريط اسود كي يبقى يذكرني هذا الشريط بان هايل قد رحل ...لماذا خالفت الوعد ورحلت وقد كانت كلمتك الاخيره لي بانك راجع لعندنا؟؟؟لماذا هذا الاستعجال؟؟؟لماذا؟؟؟لماذا؟؟؟لماذا رحلت وتركتنا نقاسي عذاب فراقك؟؟؟لا ادري كم الساعه الان ...وكم مضى من الوقت منذ تلك اللحظه التي هبت بها العاصفه وحدث الزلزال الكبير ...ولا ادري اين انا الان...ولا اشعر بما يدور من حولي...كل كياني يرفض الخبر ويكذبه...ووحده الصمت والصوره والشريط الاسود يوحيان لي عكس ما اريد هي اصوات بكاء لم اسمعها هنا وهناك...من زوايا الغرفه...ومن تحت المخدات...ومن وراء الايدي التي تغطي الوجوه والعيون...يتواصل ذهابي الى الحنفيه والاتكاء عليها والعوده من هناك ...اتمدد على سريري كما يتمدد باقي الرفاق على اسرتهم...نحاول ان نخدع انفسنا اننا نستطيع ان ننام...ولا ادري كم الساعه ...ولكن اذكر اني سمعت اذان الصباح معلنا بدء صلاة الفجر...اجلس على سريري لاكتشف ان لا احدا نائم...يتواصل تمددي وجلوسي على السرير...لا ادري اين انت ممدا الان يا هايل ؟؟ربما وضعت في التابوت ؟؟..ربما انت الان في البيت وسط اهلك؟؟..ربما في مركز الشام؟؟...لا ادري ..يقتلني اكثر البعد عنك في رحلتك الاخيره...كم انا بحاجه لاكون بجوارك الان...الامس وجهك كما لامست اورامك في وداعنا الاخير ...وكما لامست روحي وجعك وعذابك والمك...كم انا بحاجه الان القي نظرة وداع اخيره...واهتف مع الحناجر التي تختف ...واسير في مشوارك الاخير ...احمل النعش...والازمك حتى يغطي التراب اخر قطعه من التابوت ...تماما كما لازمتك لاخر نقطه عند باب القسم وغطى الباب حين اقفل وجهك الهادئ...اصحو فاجد نفسي ممدا على السرير ضمن اربع جدران جمعتنا سويا طيلة عشرين عام ...هي ذات الجدران تأسرني عنك الان...وتدفنني حياً في ذات اللحظه التي تدفن بها انت تحت تراب الجولان ...اتمدد على سريري وتغرق في نوم صباحي لم يدم طويلا...هي ساعه او ساعتين واذ باحد الاخوه ينادي علي من الساحه وراء باب الغرفه المغلقه...اذهب لملاقته من وراء الباب...وعبر شباك صغير يقدم لي التعازي ويضعني بصورة ترتيبات ومراسم بيت العزاء الذي سيقام في القسم...وثلاثة ايام حداد التي تم الاعلان عنها...لا اجادله بشيء...اوافقه على ما يقول...نفوسنا الثائره الحزينه الهائجه لا تعرف مواعيد وطقوس رسميه...ولا تحتمل لانتظار حتى الساعه الثانيه والساعه الرابعه من بعد ظهر يوم الجمعه...وهي المواعيد التي حددت لاقامة طقوس العزاء الرسميه وبما يتناسب ونظام الخروج الى الساحه في النزهه اليوميه...نفوسنا التي تفيض حزنا وشوقا لمعانقة بعضنا البعض لا تتحمل هذا الانتظار الطويل ...وباندفاع عفوي ودون أي تخطيط مسبق خرجنا في الصباح الى الساحه لمعانقة رفاقنا في الغرفه الثانيه..في الصباح الباكر ...وعلى نسمات هادئه منعشه في هذا الحر الصيفي الذي لا يطاق...وقفنا نحن اسرى الجولان ومن حولنا رفاقك واصحابك ومحبيك...نعانق بعضنا البعض...وتفيض نفوسنا وعيوننا بالدمع والبكاء وسط ساحة القسم...على اكتاف بعضنا البعض سالت دموعنا وارواحنا حزنا وحبا لك يا هايل ...نبكيك وسط الساحه بصوت مسموع بكل كبرياء وشموخ واعتزاز...تتواصل مراسيم العزاء غير مخطط لها...يخرج من في القسم ليقدم لنا العزاء...وعند انقضاء وقت النزهه...نعود جميعا الى غرفنا...اعود الى غرفتي استعدادا للجوله الثانيه من بعد الظهر...وفيما نحن ممدين على الاسره غارقين في احزاننا في ظهيرة يوم الجمعه...ياتوننا بالطعام الذي تولى احد الاخوه امر اعداده في الغرف...يدخلونه الغرفه ويبدأون بتجهيز مائده كي ناكل...وما ان اشاهد الطعام وانا جالس على احد الاسره حتى انفجر في البكاء...ها هو الطعام على شرف جنازتك يا هايل...المغمس بالامك وعذاباتك واوجاعك...لم احتمل المشهد ...رفضته باكيا...ينقلب المشهد في داخلي ...لا لن ارفض هذا الطعام...سآكل من هذه العذابات والآلام كي اتعذب اكثر واقترب منك اكثر ...اقترب من الطعام وادعو الاخرين كي ياتوا وياكلوا مثلي...نجلس على شكل دائره ...ونباشر اجتراع عذاباتك والآمك... ليتها تنتشر في اجسادنا كما نتشر المرض في جسدك...علنا نسمو اليك قليلا...قليلا...علنا ندنو منك ولو خطوه واحده ...نخرج الى الساحه في الساعه الثانيه بعد الظهر...نأخذ الأماكن التي اعدت لنا ويبدأ الماضين في القسم يتوافدون لتقديم التعازي...ويتواصل العزاء كما اعد وخطط له...وعند الساعه الثالثه نعود الى الغرف لمشاهدة النشره الاخباريه المحطه؟؟الجزيره؟؟وذلك بعد ان قيل لنا انها تبث صور واخبار الجنازهفي الجولان...ندخل الغرفه...ناخذ اماكننا قبلة التلفزيون وننتظر قدوم الخبر...تبدأ النشره باخبار متنوعه عن تفجيرات لندن والعراق وفلسطين ولبنان...وبينهما العديد من الفواصل الدعائيه ونشرات اقتصاديه ورياضيه وجويه...كم هي طويله ومرهقه هذه النشره بذات...وعند نهاية كل خبر...نستعد لأن تكون صور جنازتك وعرسك هو الخبر القادم...وكم احباطنا كبير عندما يكون الخبر التالي ليس ما نريد...في الجزء الاخير من النشره يبدأ مقدم النشره بقراءة الخبر ...صمت مطلق يسود الغرفه ...كل العيون والأذان والعقول والاحاسيس تحدق في شاشه صغيره...هي لحظات وسنرى عرسك المهيب يا هايل...هي لحظات وسنرى جماهير الجولان تزفك الى مثواك الاخير...تبدأ الصور بالظهور امامنا...اليوم يومك...والعرس عرسك...وانت فارس الميدان بلا جدال ...اراك مسجى داخل تابوت لفى بالعلم السوري يحمل على الاكتاف ...ما اراه واسمعه ليس طقوسا جنائزيه ...انه حفل زفافك الخاص...انه زفاف المناضل الشهيد الى تراب الوطن...احدق اكثر وكاني اراك ممدا داخل التابوت ...تحوم روحي حول نعشك علها تلامس روحك او جسدك...تسير بك الحشود محمولا على الاكتاف وكأني اراها تكمل ذاك الطريق الذي تسير عليه انت برجليك زالذي يظهر في الصوره المعلقه على الحائط امامي ...هي دقائق معدودات وسوف توارى الثرى...فللموت والحياة من بعدك اصبح معنى اخر...ما عاد الموت يخيفني وقد سلكت الطريق كله...وخبرت كل الاشياء ...اجزاء منا تدفن تحت التراب ...واجزاء باقيه تدفن فوق التراب...سابقى طيلة حياتي متنقلا بين الحالتين وبين القبرين ...قد ياتينا الموت بكل لحظه...فاذهب بكل شوق لملاقاة ذاك الجسد الغالي المغطى تحت التراب ...واذا تاخر قليلا ...سابقى كالفرشه احوم حول ذلك القبر ...هي دقائق معدودات وسوف تجد راحه والطمأنينه التي تبحث عنها...احتملنا قليلا ...وقدتحملتنا كل الدهر وحملت كل همومنا وخطايانا...حملت الوطن بكل همومه واحزانه واوجاعه...ومت مسموما بعشق الوطن...احتملنا لعدة دقائقكي نذرف الدمع عليك علنا نطهر انفسنا من ذنوبنا تجاهك...هي لحظات من الضجيج والصراخ وتدخل دارك الابديه ....حيث الطمأنينه والسكينه والخلود.

رفيق دربك في النضال والصمود والقيد
الاسير صدقي سليمان المقت ..معتقل الجلبوع